شهدت سوريا منذ بدء الأزمة الإنسانية الكثير من مشاريع الإغاثة الخيرية والإنسانية التقليدية التي لعبت دوراً حيوياً ومهماً في مساعدة المتضررين والمتأثرين من تردي الأوضاع، لا سيما أولئك الذين شُرِّدوا من ديارهم ونزحوا عنها، وأدت هذه المنظمات وظيفة بالغة الأهمية في الحد من آثار الحرب التي وُصفت على نطاقٍ واسع بأنها من أسوأ الكوارث والنكبات الإنسانية بعد الحرب العالمية الثانية، في بلادٍ تردّى اقتصادها على نحوٍ غير مسبوق إلى حد أنّ 82% من سكانها يعيشون تحت خط الفقر، وفق الأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة.

تمثلت أغلب مشروعات الإغاثة في المواد العينية والغذائية، الإعانات الشهرية، والكفالات المادية، بيد أنّ هذه الإعانات مثّلت عبئاً أثقل كاهل المؤسسات الإنسانية، وخلّفت واقعاً اجتماعياً سلبياً ظهرت ملامحه في الاعتماد الكامل على الإغاثاث الإنسانية والعزوف عن العمل ومصدر رزق لا سيما في المناطق التي شهدت استقراراً نسبياً.

شكلت هذه المعطيات المتمثلة في حاجة المنكوبين إلى العون والمساعدة، من ناحية، ومحدودية موارد مؤسسات العمل الإنساني من ناحية أخرى تحدياً تقتضي الضرورة حكمة التعامل معه، ما حدا بالمنظمات الخيرية غير الربحية ومؤسسات المجتمع المدني إلى تبنّي استراتيجية المشاريع التنموية الصغيرة التي توفر للمتأثرين بالحرب فرص العمل الشريف وتساعدهم على امتلاك مصدر دخلٍ ثابتٍ من عمل أيديهم.

لتنتقل تجربة العمل الخيري إلى مستوى متقدم يتجاوز المفهوم التقليدي القائم على الإغاثة والإعانات، بتوفير فرص العمل للكثير من المتضررين من خلال المشروعات التنموية الصغيرة التي ساهمت في تحسين المستوى المعيشي والواقع الاجتماعي للمتضررين وخففت كثيراً من آثار الأوضاع الراهنة. وقد أحدثت هذه المشروعات فرقاً واضحاً في المناطق المتأثرة بالحرب، وغيّرت كثيراً في واقع الأسر المنكوبة التي تعاني الفقر والعوز وضيق ذات اليد.

ولا تكتفي الهيئات الخيرية والمؤسسات الإنسانية بتوفير المشروعات الصغيرة فحسب، بل تُشرف على كافة مراحل المشروع وتدريب المستفيدين وتوجيههم حتى يتقنوا العمل ويبدأوا في جني ثماره.

هذا الأمر يساهم كثيراً في تعزيز العامل النفسي لدى الأسر النازحة والفقيرة، لما له من أثر بالغ في تغيير واقعها المرير، فضلاً عن الأثر الإيجابي الناشئ عن اكتساب المستفيدين لمصدر دخل من كسب أيديهم يُغنيهم الحاجة والفاقة والجلوس بانتظار الإعانات.

=

هذا التوجّه القائم على توفير المشروعات التنموية الصغيرة حوّل حياة الأسر المستفيدة منها إلى عائلات منتجة تدعم المجتمع وتساهم في دورة النشاط الاقتصادي تعزيزاً لقيم العمل والإنتاج عِوضاً عن تلقي الإغاثات والمعونات.

وتتنوع مجالات المشروعات التنموية الصغيرة وفقاً للموارد المتاحة والإمكانيات المتوفرة، من قبيل مشروعات تربية المواشي وزراعة الأعلاف في القرى الزراعية، وكذلك الخياطة في مشاغل خاصة بالنساء بعد تدريبهن عليها.

وبرزت المشروعات الصغيرة والمشروعات متناهية الصغر كبديلٍ ملائمٍ يوفر نشاطاً اقتصادياً يُعوّل عليه في إنقاذ أهالي المناطق المتضررة، وقد غطّت هذه المشروعات كافة المجالات الزراعية منها والحيوانية والصناعية الصغيرة والتشغيلية والتجارية.

وأنقذت هذه المشاريع  ألاف العائلات المنتشرة في المناطق الاقتصادية الخمس المذكورة أعلاه والتي من ميزاتها أنها لم تخضع لقوانين أصحاب النفوذ العسكري وامتازت بحريتها واستقلاليتها عدا عن حالات استثنائية لا تكاد تذكر ساهمت في إنهاء تلك المشاريع وإعادة أصحابها إلى نقطة الصفر، والتي حققت مدخولاً معقولاً لتلك الاسر فحققت دخلاً يصل لنحو 500 دولار شهرياً للفرد يزيد أوينقص تبعاً لعوامل وظروف المشروع .

إن الواقع السوري الراهن يبرهن على أهمية قطاع المشروعات التنموية الصغيرة لتحريك ودفع عجلة الاقتصاد في هذا البلد الذي تدّمر اقتصاده وقضي على معظم موارده، وخلّف قدراً هائلاً من الطاقات البشرية المعطلة، في ضوء هذا الواقع، فإن العناية بقطاع المشاريع الصغيرة تعد مرتكزاً للتنمية ومُخرجاً من الأزمة للنهوض بالقطاعين الصناعي والخدمي وتغيير الواقع الاجتماعي الذي فرضته ويلات الحرب، إلى جانب معالجة القصور الاقتصادي المترتب على وسدّ العجز الواضح والفجوة الهائلة بين الإنتاج والاحتياجات من السلع والخدمات، وتنشيط الركود الإنتاجي الراهن الناتج عن توقف معظم الصناعات والقطاعات الإنتاجية في سوريا.

يتطلب الأمر، إذاً، توجهاً سديداً يرتكز على العناية الواجبة بقطاع المشروعات التنموية الصغيرة، من حيث توفير برامج التدريب والمتابعة، فضلاً عن مصادر التمويل اللازمة، بما يحفز الأسر المحتاجة ويدفعها إلى الاستفادة من المشروعات الصغيرة ويحقق في نهاية الخاتمة الغاية منها والمتمثلة في ابتكار شكل جديد من أشكال المساعدة المستدامة المرتكزة على إشاعة ثقافة الإنتاج والعمل وليس الإغاثات والإعانات.